الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال ابن عاشور: موقع هذه الآية عقب الآي التي قبلها أنّ الله لما شوّه حال المنافقين وشهّر بفضائحهم تشهيرًا طويلًا، كان الكلام السابق بحيث يثير في نفوس السامعين نفورًا من النفاق وأحواله، وبغضًا للملموزين به، وخاصّة بعد أن وصفهم باتّخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، وأنَّهم يستهزئون بالقرآن، ونَهى المسلمين عن القعود معهم، فحذّر الله المسلمين من أن يغيظهم ذلك على من يتوسّمون فيه النفاق، فيجاهِروهم بقول السوء، ورخَّص لِمن ظُلم من المسلمين أن يجهر لظالمه بالسوء، لأنّ ذلك دفاع عن نفسه.روى البخاري: أنّ رجالًا اجتمعوا في بيت عِتبان بن مالك لطعام صنعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قائل: أين مالك بن الدّخْشُم، فقال بعضهم: ذلك منافق لا يحبّ الله ورسوله، فقال رسول الله: «لا تقل ذلك ألا تراه قد قال: لا إله إلاّ الله، يريد بذلك وجهَ الله، فقال: فإنَّا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين». الحديثَ.فظنّ هذا القائل بمالك أنَّه منافق، لملازمته للمنافقين، فوصفه بأنَّه منافق لا يحبّ الله ورسوله.فلعلّ هذه الآية نزلت للصدّ عن المجازفة بظنّ النفاق بمن ليس منافقًا.وأيضًا لمّا كان من أخصّ أوصاف المنافقين إظهار خلاف ما يُبطنون فقد ذكرت نجواهم وذكر رياؤهم في هذه السورة وذكرت أشياء كثيرة من إظهارهم خلاف ما يبطنون في سورة البقرة كان ذلك يثير في النفوس خشية أن يكون إظهار خلاف ما في الباطن نفاقًا فأراد الله تبين الفارق بين الحالين.وجملة {لا يحبّ} مفصولة لأنَّها استئناف ابتدائي لهذا الغرض الذي بينّاه: الجهر بالسوء من القول، وقد علم المسلمون أنّ المحبّة والكراهية تستحيل حقيقتهما على الله تعالى، لأنّهما انفعالان للنفس نحو استحسان الحسن، واستنكار القبيح، فالمراد لازمهما المناسب للإلهية، وهما الرضا والغضب.وصيغة {لا يحبّ}، بحسب قواعد الأصول، صيغة نفي الإذن.والأصل فيه التحريم.وهذا المراد هنا؛ لأنّ {لا يحبّ} يفيد معنى يكره، وهو يرجع إلى معنى النهي.وفي [صحيح مسلم] عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله يرضى لكم ثلاثًا ويكره لكم ثلاثًا إلى قوله ويكره لكم قِيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال».فهذه أمور ثلاثة أكثر أحوالها مُحرّم أو مكروه.والمراد بالجهر ما يبلغ إلى أسماع الناس إذ ليس السرّ بالقول في نفس الناطق ممّا ينشأ عنه ضرّ.وتقييده بالقول لأنَّه أضعف أنواع الأذى فيعلم أنّ السوء من الفعل أشدّ تحريمًا. اهـ..قال السمرقندي: {لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء مِنَ القول} أي لا يحب أن يذكر بالقول القبيح لأحد من الناس {إَلاَّ مَن ظَلَمَ} فيقتص من القول بمثل ما ظلم، فلا جناح عليه.نزلت الآية في شأن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، شتمه رجل فسكت أبو بكر مرارًا، ثم ردّ عليه. اهـ..قال الفخر: قالت المعتزلة: دلت الآية على أنه تعالى لا يريد من عباده فعل القبائح ولا يخلقها، وذلك لأن محبة الله تعالى عبارة عن إرادته، فلما قال: {لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء مِنَ القول} علمنا أنه لا يريد ذلك، وأيضًا لو كان خالقًا لأفعال العباد لكان مريدًا لها، ولو كان مريدًا لها لكان قد أحب إيجاد الجهر بالسوء من القول، وإنه خلاف الآية.والجواب: المحبة عندنا عبارة عن إعطاء الثواب على الفعل، وعلى هذا الوجه يصح أن يقال: إنه تعالى أراده ولكنه ما أحبه والله أعلم. اهـ.قال الفخر:في قوله: {إَلاَّ مَن ظَلَمَ} قولان، وذلك لأنه إما أن يكون استثناءً منقطعًا أو متصلًا.القول الأول: أنه استثناء متصل، وعلى هذا التقدير ففيه وجهان: الأول: قال أبو عبيدة هذا من باب حذف المضاف على تقدير: إلا جهر من ظلم.ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، الثاني: قال الزجاج: المصدر هاهنا أقيم مقام الفاعل، والتقدير: لا يحب الله المجاهر بالسوء إلا من ظلم.القول الثاني: إن هذا الاستثناء منقطع، والمعنى لا يحب الله الجهر بالسوء من القول، لكن المظلوم له أن يجهر بظلامته. اهـ..قال الماوردي: قوله عز وجل: {لاَّ يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ} فيه أربعة تأويلات:أحدها: يعني إلا أن يكون مظلومًا فيدعو على من ظلمه، وهذا قول ابن عباس.والثاني: إلا أن يكون مظلومًا فيجهر بظلم من ظلمه، وهذا قول مجاهد.والثالث: إلا من ظلم فانتصر من ظالمه، وهذا قول الحسن، والسدي.والرابع: إلا أن يكون ضيفًا، فينزل على رجل فلا يحسن ضيافته، فلا بأس أن يجهر بذمه، وهذه رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد. اهـ..قال السمرقندي: وقال الفراء: {إَلاَّ مَن ظَلَمَ} يعني ولا من ظلم.وقال السدي: يقول من ظلم فانتصر بمثل ما ظلم فليس عليه جناح.وقال الضحاك: {لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء} أي لا يحب لكم أن تنزلوا برجل، فإذا ارتحلتم عنه تذمون طعامه إلا رجلًا أردتم النزول عليه عند حاجتكم فمنعكم.وقال مجاهد: هو في الضيافة إذا دخل الرجل المسافر إلى القوم، يريد أن ينزل عليهم فلم يضيفوه، فقد رخص له أن يذكر كلامًا عنهم ويقول فيهم.ويقال: يعني يسبه مثل ما سبه ما لم يكن كلامًا فيه حد أو كلمة لا تصلح، ولو لم يقل كان أفضل. اهـ..قال ابن عاشور: واستثنى {مَن ظُلم} فرَخَّص له الجهرَ بالسوء من القول.والمستثنى منه هو فاعلُ المصدر المقدّر الواقع في سياق النفي، المفيد للعموم، إذ التقدير: لا يحبّ الله جَهْر أحد بالسوء، أو يكون المستثنى مضافًا محذوفًا، أي: إلاّ جَهْرَ من ظلم، والمقصود ظاهر، وقد قضي في الكلام حقّ الإيجاز.ورخَّص الله للمظلوم الجهر بالقول السيّئ ليشفي غضبه، حتّى لا يثوب إلى السيف أو إلى البَطش باليد، ففي هذا الإذن توسعة على من لا يمسك نفسه عند لحاق الظلم به، والمقصود من هذا هو الاحتراس في حكم {لا يحبّ الله الجهر بالسوء من القول}.وقد دلَّت الآية على الإذن للمظلوم في جميع أنواع الجهر بالسوء من القول، وهو مخصوص بما لا يتجاوز حدّ التظلّم فيما بينه وبين ظالمه، أو شكاية ظلمه: أن يقول له: ظلمتني، أو أنت ظالم؛ وأن يقول للناس: إنَّه ظالم.ومن ذلك الدعاءُ على الظالم جهرًا لأنّ الدعاء عليه إعلان بظلمه وإحالته على عدل الله تعالى، ونظير هذا المعنى كثير في القرآن، وذلك مَخصوص بما لا يؤدّي إلى القذف، فإنّ دلائل النهي عن القذف وصيانة النفس من أن تتعرّض لِحدّ القذف أو تعزيز الغيبة، قائمة في الشريعة.فهذا الاستثناء مفيد إباحة الجهر بالسوء من القول من جانب المظلوم في جانب ظالمه؛ ومنه ما في الحديث: «مَطْلُ الغنيّ ظلم» أي فللممطول أن يقول: فلان مماطل وظالم.وفي الحديث: «لَيُّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته». اهـ..قال الفخر: المظلوم ماذا يفعل؟ فيه وجوه: الأول: قال قتادة وابن عباس: لا يحب الله رفع الصوت بما يسوء غيره إلا المظلوم فإن له أن يرفع صوته بالدعاء على من ظلمه.الثاني: قال مجاهد: إلا أن يخبر بظلم ظالمه له.الثالث: لا يجوز إظهار الأحوال المستورة المكتومة، لأن ذلك يصير سببًا لوقوع الناس في الغيبة ووقوع ذلك الإنسان في الريبة، لكن من ظلم فيجوز إظهار ظلمه بأن يذكر أنه سرق أو غصب، وهذا قول الأصم.الرابع: قال الحسن: إلا أن ينتصر من ظالمه.قيل نزلت الآية في أبي بكر رضي الله عنه، فإن رجلًا شتمه فسكت مرارًا، ثم رد عليه فقام النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: شتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه قمت، قال: إن ملكًا كان يجيب عنك، فلما رددت عليه ذهب ذلك الملك وجاء الشيطان، فلم أجلس عند مجيء الشيطان، فنزلت هذه الآية. اهـ.قال الفخر:قرأ جماعة من الكبار: الضحاك وزيد بن أسلم وسعيد بن جبير {إَلاَّ مَن ظَلَمَ} بفتح الظاء، وفيه وجهان: الأول: أن قوله: {لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء مِنَ القول} كلام تام، وقوله: {إَلاَّ مَن ظَلَمَ} كلام منقطع عما قبله، والتقدير: لكن من ظلم فدعوه وخلوه، وقال الفرّاء والزجاج: يعني لكن من ظلم نفسه فإنه يجهر بالسوء من القول ظلمًا واعتداء.الثاني: أن يكون الاستثناء متصلًا والتقدير {إَلاَّ مَن ظَلَمَ} فإنه يجوز الجهر بالسوء من القول معه. اهـ..قال الجصاص: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إلَّا مَنْ ظُلِمَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: إلَّا أَنْ يَدْعُوَ عَلَى ظَالِمِهِ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ رِوَايَةٌ: إلَّا أَنْ يُخْبِرَ بِظُلْمِ ظَالِمِهِ لَهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: إلَّا أَنْ يَنْتَصِرَ مِنْ ظَالِمِهِ.وَذَكَرَ الْفُرَاتُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: سُئِلَ عَبْدُ الْكَرِيمِ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إلَّا مَنْ ظُلِمَ} قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يَشْتُمُك فَتَشْتُمُهُ، وَلَكِنْ إنْ افْتَرَى عَلَيْك فَلَا تَفْتَرِ عَلَيْهِ. وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَلَمَنْ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ}.وَرَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إلَّا مَنْ ظُلِمَ} قَالَ: ذَاكَ فِي الضِّيَافَةِ، إذَا جِئْت الرَّجُلَ فَلَمْ يُضِفْك فَقَدْ رُخِّصَ أَنْ تَقُولَ فِيهِ.قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنْ كَانَ التَّأْوِيلُ كَمَا ذُكِرَ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ كَانَتْ الضِّيَافَةُ وَاجِبَةً، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «الضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَمَا زَادَ فَهُوَ صَدَقَةٌ»، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ فِيمَنْ لَا يَجِدُ مَا يَأْكُلُ فَيَسْتَضِيفَ غَيْرَهُ فَلَا يُضِيفُهُ، فَهَذَا مَذْمُومٌ يَجُوزُ أَنْ يُشْكَى.وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ تَكَلَّمَ بِسُوءٍ فِيمَنْ كَانَ ظَاهِرُهُ السِّتْرَ وَالصَّلَاحَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُحِبُّ ذَلِكَ، وَمَا لَا يُحِبُّ فَهُوَ الَّذِي لَا يُرِيدُهُ، فَعَلَيْنَا أَنْ نَكْرَهَهُ وَنُنْكِرَهُ؛ وَقَالَ: {إلَّا مَنْ ظُلِمَ} فَمَا لَمْ يَظْهَرْ لَنَا ظُلْمُهُ فَعَلَيْنَا إنْكَارُ سُوءِ الْقَوْلِ فِيهِ. اهـ..قال في الميزان: بيان قوله تعالى: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم} قال الراغب في مادة جهر يقال لظهور الشيء بإفراط لحاسر البصر أو حاسة السمع، أما البصر فنحو رأيته جهارا، قال الله تعالى: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} {أرنا الله جهرة} إلى أن قال- وأما السمع فمنه قوله تعالى: {سواء منكم من أسر القول ومن جهر به}.والسوء من القول كل كلام يسوء من قيل فيه كالدعاء عليه، وشتمه بما فيه من المساوئ والعيوب وبما ليس فيه، فكل ذلك لا يحب الله الجهر به وإظهاره، ومن المعلوم أنه تعالى منزه من الحب والبغض على حد ما يوجد فينا معشر الإنسان وما يجانسنا من الحيوان إلا أنه لما كان الأمر والنهى عندنا بحسب الطبع صادرين عن حب وبغض كنى بهما عن الإرادة والكراهة وعن الأمر والنهى.فقوله: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول} كناية عن الكراهة التشريعية أعم من التحريم والإعانة.وقوله: {إلا من ظلم} استثناء منقطع أي لكن من ظلم لا بأس بأن يجهر بالسوء من القول فيمن ظلمه من حيث ظلم، وهذه هي القرينة على أنه إنما يجوز له الجهر بالسوء من القول يبين فيه ما ظلمه، ويظهر مساوئه التي فيه مما ظلمه به، وأما التعدي إلى غيره مما ليس فيه، أو ما لا يرتبط بظلمه فلا دليل على جواز الجهر به من الآية.والمفسرون وإن اختلفوا في تفسير السوء من القول فمن قائل أنه الدعاء عليه، ومن قائل أنه ذكر ظلمه وما تعدى به عليه وغير ذلك إلا أن الجميع مشمول لإطلاق الآية، فلا موجب لتخصيص الكلام ببعضها. اهـ.
|